الأحد، 15 يناير 2017


د.عبد العزيز محمد الدخيل

بعد موافقة مجلس الوزراء تم إعلان الميزانية العامة يوم الخميس الموافق 22 ديسمبر 2016 م وصاحب إعلان الميزانية حملة دعائية للتعريف بها وبمزاياها. ومن هذه الحملة ظهور مجموعة من الوزراء ووكلاء الوزراء لشرح بياناتها والإجابة على أسئلة مجموعة من الصحفيين.

أصدرت وزارة المالية المعنية بشؤون الميزانية وثيقتين الأولى: هي البيان العام للميزانية والثانية: النسخة المختصرة للميزانية. في الصفحة الثالثة من النسخة المختصرة للميزانية كانت هناك رسالة من معالي وزير المالية ورد فيها هذا النص "مع انطلاق الرؤية 2030 تلتزم حكومتنا بالشفافية الكاملة والمساءلة مع المواطنين".

تصفحت الوثيقتين ولم أجد فيهما إلا النزر اليسير من البيانات والأرقام الإجمالية والتفصيلية التي سوف أستعرضها في الجزء الأول من هذه الورقة وسيغيب التحليل والقراءة النقدية عن هذا الجزء الأول بسبب غياب المعلومة. في الجزء الثاني من الورقة سوف أستعرض مع القارئ بعض النقاط ذات العلاقة بميزانية الحكومة للعام المالي 2017م.

الجـــــزء الأول

سوف أستعرض أولاً البيانات الواردة في الوثيقتين والمتعلقة بالسنة الحالية المنتهية 2016 ثم أنتقل إلى البيانات المتعلقة بالميزانية الجديدة 2017 م.

أ‌-      النتائج الفعلية للسنة المالية 2016م

-         الايرادات

من المتوقع أن يصل إجمالي الإيرادات الفعلية للعام 2016م (528) مليار ريال بزيادة 2.7% عما كان مقدراً في الميزانية البالغ 514 مليار. الايرادات النفطية الفعلية قدرت بمبلغ 329 مليار ريال والإيرادات غير النفطية الفعلية بمبلغ 199 مليار ريال.

-         الايرادات النفطية المحققة

بلغت العوائد النفطية في عام 2016م (329 مليار ريال) وكما هو معروف فإن العوائد البترولية هي العمود الفقري الذي تقوم عليه الميزانية لأنها المصدر الأساسي لتمويل مصروفات الدولة على الأجور والسلع والخدمات. في بند بهذا الحجم وهذه الأهمية لابد أن يصدر في بيان الميزانية شيء من الايضاحات الرقمية عن حجم المنتج الفعلي وحجم المباع في السوق العالمي والمحلي ومعدل السعر للمبيعات الخارجية والداخلية الذي احتسبت على أساسه الإيرادات النفطية وكم استقطع من الإيرادات من قبل شركة أرامكو المستخرجة للنفط أو من غيرها؟ لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.

-         الإيرادات غير النفطية المحققة

في (ص13) من بيان الميزانية ورد تفصيل للإيرادات غير النفطية المحققة للعامين 2016م و2015م تفاصيلها كما يلي:
       
اسم الحساب
الايرادات الفعلية للسنة المالية 1436/1437
(2015م)
(مليون ريال)
الايرادات المتوقعة بنهاية السنة المالية 1437/1438
(2016م)
(مليون ريال)
الرسوم الجمركية
25,940
20,800
العوائد المتحققة من مؤسسة النقد
35,000
62,200
مبيعات السلع والخدمات  
15,100
14,100
رسوم المنتجات النفطية
16,200
15,500
العوائد المتحققة من صندوق الاستثمارات العامة
15,000
15,000
الضرائب على الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية
14,600
14,500
الغرامات والجزاءات والمصادرات  
9,200
7,500
الضرائب على التأشيرات
7,100
7,900
حصة الحكومة من الاتصالات
3,700
4,800
رسوم التبغ
60
4,800
رسوم استخدام الطيف الترددي
500
500
الإيرادات المتنوعة غير المصنفة في مكان آخر
8,450
1,800
المقابل المالي للتعدين
550
600
العوائد المتحققة من الجهات الأخرى
0
15,000
ضريبة المشروبات الغازية والطاقة  
0
0
الزكاة
14,100
14,00

 

إجمالي الإيرادات غير النفطية
165,900
199,000
إجمالي الإيرادات النفطية
446,439
329,000
إجمالي الإيرادات
612,339
528,000


 
ملاحظات على بعض الايرادات غير النفطية للعام 2016م

الرسوم الجمركية

 انخفضت الرسوم الجمركية في العام 2016م عن عام 2015 م بمقدار 5,140 مليون ريال وفي ذلك دليل على انخفاض حجم الواردات والذي هو مؤشر لانكماش اقتصادي حيث يعتمد الاقتصاد بشكل كبير على الواردات من السلع والخدمات.

 العوائد المتحققة من مؤسسة النقد

 زادت هذه العوائد بمقدار 26,800 مليون ريال أي ما يعادل 80.96% من إجمالي الزيادة في الإيرادات غير النفطية في العام 2016م. ونظراً لأهمية العائدات غير النفطية كهدف أساس من أهداف الرؤية 2030 وأهمية الزيادة الواردة في هذا البند (80.96 %) فمن المنطقي أن يتم تفصيل هذه العوائد، لكن الرقم جاء وحيداً.

العوائد من صندوق الاستثمارات العامة

في العام 2015م كانت 15,000 مليون ريال وفي العام 2016م أيضا 15,000 مليون ريال. إن ثبات الرقم في العامين 2015 و2016م  عند 15,000 مليون ريال يثير التساؤل فيما يتعلق بدقة البيانات خصوصا إنه لم يرد تفصيل عن هذه العوائد.

 العوائد من الجهات الأخرى

كانت هذه العوائد (صفرا) في العام 2015 م وارتفعت إلى 15,000 مليون ريال في العام 2016م أيضا لا يوجد إيضاح أو إفصاح عن تفاصيل هذه العوائد التي وردت مبهمة دون تفصيل ولم يقدم شرح عن كونها صفراً في العام 2015 ثم ارتفعت الى 15000 مليون في 2016 متعادلة مع عوائد صندوق الاستثمارات العامة.

المصروفات الفعلية لميزانية عام 2016م

بلغ إجمالي الانفاق الفعلي في ميزانية 2016م ما قيمته 825 مليار ريال سعودي وعند إضافة المبالغ التي توقفت الدولة عن صرفها في العام الذي سبقه 2015م والبالغة 105 مليار ريال يكون إجمالي نفقات الميزانية للعام المنصرم 2016م ما مقداره 930 مليار ريال. لم يرد إيضاح عن أسباب توقف الصرف أو تفصيل لمكونات هذا الرقم 105 مليار ريال من حيث الجهات أو المشاريع التي منع عنها الصرف في العام 2015م، أو الأسباب التي دعت وزارة المالية إلى إيقاف الصرف على مشاريع قائمة.

تمويل عجز الميزانية 2016م

يتوقع أن يصل العجز المالي للعام 2016م إلى 297 مليار ريال 

(عجز الميزانية هو الفرق بين ايرادات الدولة خلال العام ومصروفاتها خلال نفس الفترة)

تم تمويل هذا العجز من الدين المحلي والدين الخارجي بمبلغ 200.1 بليون ريال والباقي سيمول من السحب من الاحتياطي العام للدولة.

هذا كل ما ورد في وثيقة البيان العام للميزانية والميزانية المختصرة عن ما يتعلق بما تحقق من ميزانية العام المنصرم 2016.

 الميزانية الجديدة للسنة المالية 2017م

الايرادات في ميزانية 2017

بيان الميزانية بدأ بشرح للرؤية 2030) ص20) وأهدافها واستراتيجياتها والإدارات التي تم إنشاؤها في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية لتحقيق أهداف الرؤية وبعد الاسهاب في هذا المجال انتقل البيان للحديث عن الإيرادات المتوقعة في العام المالي 2017م مقارنة بإيرادات العام 2016م وأورد جدولاً مقتضباً (ص21)  فيه ما يلي :

 الإيرادات المتوقعة في ميزانية عام 2017 م:

  الإيرادات النفطية                 480 مليار ريال

 الإيرادات غير النفطية           212 مليار ريال

  اجمالي الإيرادات                 692 مليار ريال

نسبة الزيادة في إجمالي الإيرادات للعام 2017م إلى العام 2016م هي:

 الإيرادات النفطية              46%

 الإيرادات غير النفطية        6.5%

اجمالي الإيرادات              31%  

الايرادات النفطية

على الرغم من أهمية الإيرادات النفطية كمكون رئيس في إيرادات الدولة إلا أنه وكما ذكرت سابقاً لم يرد أي تفصيل عن الإيرادات النفطية من حيث كمية المستخرج خلال العام من النفط وكمية المباع منه في الأسواق العالمية وفي السوق المحلي والإيراد المتحقق منهما. كذلك لم ترد بيانات عن متوسط السعر العالمي للنفط الذي حسبت بموجبه الإيرادات الحكومية.  

 الايرادات غير النفطية

فيما يتعلق بالإيرادات غير النفطية لم يورد بيان الميزانية أي تفصيل عن مكونات الإيرادات غير النفطية للميزانية 2017. البيانات المتعلقة بمصادر الإيرادات غير النفطية هامة جدا حيث أن تنويع مصادر الدخل غير النفطي يعتبر من الأهداف الرئيسية للرؤية 2030 وللميزانية. ومن الملاحظ أنه كان هناك تفصيل لمصادر الإيرادات غير النفطية للعام 2016م لكنه لم يرد أي تفصيل لمصادر الإيرادات غير النفطية في الميزانية الجديدة للعام 2017م.

المصروفات في ميزانية 2017 م

في جانب البيانات المتعلقة بالإنفاق الحكومي لميزانية العام 2017م أشار البيان (ص21) إلى:
خصص للإنفاق الحكومي مبلغ (890) مليار ريال بزيادة قدرها 8% عن مستوى الإنفاق للعام 2016م الذي بلغ (825) مليار ريال. وذكر البيان أنه خصص في ميزانية 2017م مبلغ (42) مليار ريال لمبادرات برنامج التحول الوطني. 

وأورد البيان بعد ذلك قائمة بتسعة قطاعات ذكر فيها الانفاق الحكومي الذي تحقق في عام 2016م والانفاق الحكومي المقدر للعام 2017 م.

القطاع
المصروفات الفعلية 2016 م
(مليون ريال)
المصروفات المقدرة 2017 م
(مليون ريال)
الإدارة العامة
26,770
26,716
الدفاع العسكري
20,5095
19,0854
الأمن والمناطق الإدارية
10,0626
96,687
الخدمات البلدية
24,960
47,942
التعليم
205,826
200,329
الصحة والتنمية الاجتماعية
101,435
120,419
الموارد الاقتصادية
38,248
47,260
التجهيزات الأساسية والنقل
37,584
52,164
وحدة البرامج العامة
84,452
107,626
الإجمالي
825,000
890,000

     ملاحظات على الانفاق الحكومي في ميزانية 2017م

1.    تسمية القطاعات الاقتصادية

تسمية القطاعات الحكومية كما وردت في الجدول أعلاه، لا تتوافق مع مسميات الأجهزة والوزارات الحكومية كما هي معروفة، فمثلا ما هو قطاع الإدارة العامة أو وحدة البرامج العامة أو قطاع الموارد الاقتصادية. إن عدم تحديد وتطابق التسمية في الميزانية مع مسمى الجهة الحكومية في الواقع يخلق بلبلة وعدم وضوح لدى المواطن والباحث. قطاع التعليم على سبيل المثال معروف مما يسهل للقارئ ربط الرقم الذي يقرأه في الجدول بالجهاز الحكومي الذي يعرفه الجميع. كما تم الجمع في الميزانية بين جهات حكومية لا ترتبط تنظيمياً ببعضها البعض مثل (قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية) أو (قطاع الأمن والمناطق الإدارية).

من المفيـد للقارئ أن يربط ما بين المسميات الواردة في الميزانيــة سواء في جانب الايرادات أو النفقــات وبين التنظيم الإداري للأجهزة الحكومية ومسمياتها المتعارف عليها، لكن إذا اختلفت المسميات أو حّورت وجمعت فإن هذا يخلق إشكالاً للقارئ ويساهم في عدم الوضوح والشفافية.

2.     القطاع العسكري والأمني

خصص لهذا القطاع من ميزانية الدولة للعام الحالي 2017م ما نسبته 32.3% أي (287) مليار ريال بانخفاض طفيف عن العام 2016م (14 مليار من الدفاع و3.9 مليار من الأمن). قد تكون الظروف الراهنة المتعلقة بالصراعات والحروب في اليمن وسوريا والإرهاب المتزايد في المنطقة يبرر الإنفاق على الدفاع والأمن إلا أنه رغم ذلك يظل ترشيد الانفاق واعتماد الجودة النوعية معياراً يأتي قبل المعيار الكمي وشرطا له.

3.    قطاع الخدمات البلدية

ارتفع المخصص لهذا القطاع في ميزانية 2017م بنسبة 195% عن المصروف الفعلي في عام 2016م (أي من (20) مليار تقريبا كإنفاق فعلي في عام 2016م إلى (48) مليار تقريبا لعام 2017م). في التفصيل المتعلق بهذا القطاع أشير إلى بعض المشاريع الجديدة لكن التفصيل لم يكن محددا كما يجب، ولم يتم إيضاح الأسباب وراء هذه الزيادة الكبيرة.

4.    قطاع التعليم

  انخفضت ميزانيته للعام 2017م عن المصروف عليه في 2016 م بمقدار (5,497) مليون ورغما عن كون هذا الانخفاض طفيف إلا أنه قد يعني أن أهداف تطوير التعليم وجميع ما يتصل به أوشكت على الانتهاء، وهذا ما لا يبدو أنه واقع الحال. وحيث أنني أعتقد أن التعليم أساسي في بناء الإنسان السعودي من حيث المهارات العلمية والتقنية والسلوك الإداري والاجتماعي، أرى أن تكون له أولوية قصوى في الرؤية وفي  الميزانية.

5.     قطاع الموارد الاقتصادية والبرامج العامة:

خصص له في ميزانية 2017م حوالي 155 مليار وذلك بجمع قطاع الموارد الاقتصادية مع قطاع وحدة البرامج العامة الواردة في جدول النفقات الحكومية أعلاه. هذا يوضح أن هناك عمليات للجمع والتحوير والتدوير للبيانات والأرقام المتعلقة بالنفقات المخصصة للبرامج والأجهزة الحكومية بهدف الاختصار لكن ذلك يتعارض مع الافصاح والشفافية التي تنادي بها وتدعيها الحكومة. فما هو الرابط بين تنفيذ توسعة المسجد الحرام وبين توفير مياه الشرب وتعزيز مصاريف المياه الواردة ضمن تفصيل مصاريف (قطاع الموارد الاقتصادية والبرامج العامة ص26). توسعة الحرمين الشريفين وما يرتبط بها من نزع ملكيات وغيره أخذت من المال العام ما أخذت من المليارات على مدى سنين لذا فإنني أتمنى أن تكون هناك مراجعة جادة وشفافة لما سبق وأن صرف وما هو الآن معد للصرف. فعلى الرغم من الأهمية الدينية والسياسية لتطوير مرافق الحرمين الشريفين وتوسيعها إلا أن الإنفاق على تحسين وتطوير حياة المواطن وحمايته من الفقر والجهل والمرض ذات أهمية قصوى دينيا وسياسيا واجتماعياً.

6.     مبادرات برنامج التحول الوطني 2020

من المصروفات المدغمة في جدول المصروفات الحكومية للقطاعات الاقتصادية في ميزانية 2017 الموضح أعلاه ما أسماه بيان الميزانية (مبادرات برنامج التحول الوطني 2020) حيث ورد النص التالي في ( ص27 ) من بيان الميزانية:

" وقد خصص مبلغ (286 مليار ريال) ريال تكاليف مبادرات برنامج التحول الوطني حتى عام 2020 صرف منها (9 مليار) في عام 2016م كما تضمنت ميزانية هذا العام 2017م مبلغ ( 42 مليار ريال )" .

نظرا لضخامة المبلغ المخصص لمبادرات برنامج التحول الوطني 2020 والذي يبلغ 268 مليار ريال فإنه من الأجدر جعله قطاعا مستقلاً تدرج تحته بشكل واضح جميع المبادرات المتعلقة بهذا البرنامج ونوع المبادرة وتكلفتها والجهة التي ستتم فيها.

7. العجز المالي في ميزانية 2017م

تراكم العجز المالي للدولة الذي ارتفع من (142 مليار ريال) 6% من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2015 إلى (297 مليار ريال)  11.5% من الناتج المحلي الاجمالي في نهاية العام 2016، وترى الحكومة كما جاء في النسخة المختصرة للميزانية أنها سوف تكون قادرة على خفض العجز المتوقع لعام 2017م إلى (198 مليار ريال ) أي بحوالي 99 مليار ريال.

وسيتم تمويل عجز الميزانية من الدين المحلي والدين الأجنبي والسحب من الاحتياطي العام  للدولة.

لكن لم توضح بيانات الميزانية النسبة أو المبالغ التي سيتم اللجوء اليها من أي من هذه المصادر.

 هذا كل ما ورد في الوثيقتين الصادرتين من وزارة المالية بخصوص الميزانية العامة للدولة 2017م (البيان العام للميزانية والميزانية المختصرة) من أرقام مالية تتعلق بالإيرادات والنفقات والعجز المالي والدين سواء بالنسبة لما تحقق في ميزانية العام الماضي 2016 م، أو بالنسبة للمخصص في ميزانية العام الجديد من نفقات وإيرادات.

إضافة الى ذلك هناك شرح مطول في بيان الميزانية عن الاتجاهات المالية والتوقعات والإصلاحات المالية والهيكلية الواردة في بيان العام الماضي 2016م وتلك المتعلقة بهذا العام (ص 28 – ص38 من بيان الميزانية) وهذه الشروح مستقاة من الرؤية 2030 وبرنامج التحول 2020. هي مفيدة للقارئ، لكنها في نظري لا تسد الحاجة إلى إفصاح أكثر تفصيلاً فيما يتعلق بأرقام الميزانية سواء في جانب الايرادات أو النفقات والعجز المالي والدين. ومن المؤمل أن تتدارك وزارة المالية هذا النقص بمزيد من التقارير الدورية عن حركة الميزانية وتطورها خلال العام.

     الجزء الثاني: ملاحظات ووجهة نظر                                  

  1. الميزانية والتنمية الاقتصادية

الميزانية هي بيان لوضع المالية العامة للدولة في نهاية كل عام مالي منصرم وبداية عام مالي جديد. وأهم عناصر الميزانية هي المصروفات والإيرادات والعجز أو الفائض في الميزانية والدين الحكومي أو الفائض في نهاية العام. الإفصاح عن التفاصيل من القواعد الأساسية التي تقوم عليها الميزانية سواء بالنسبة لتفاصيل الإيرادات بأنواعها ومصادرها المختلفة أو بالنسبة للمصروفات بأبوابها وبنودها ومشاريعها المختلفة ثم تأتي الشفافية التي تبعد كل غموض في البيانات المعلن عنها بحيث تكون واضحة شفافة دون تجميع وتدوير وتحوير.

الميزانية وثيقة مالية والأرقام التي تصدر بها الميزانية هي انعكاس للسياسات المالية التي تأخذ بها الدولة لإدارة اقتصادها الوطني. هذه السياسات المالية مثل سن الضرائب أو الاستدانة من السوق المحلي أو الدولي، خفض أو زيادة الإنفاق.. الخ تكون متناغمة ومتسقة مع الأهداف الاقتصادية طويلة الأمد في خطة التنمية أو في الرؤية التي تعتمدها الدولة وتسعى لتحقيقها.

لي وجهة نظر عبرت عنها في عدة أماكن فيما يتعلق بالاستراتيجية الاقتصادية التي تتبناها الرؤية 2030 والتي يبدو أنها حلت محل الخطة الخمسية العاشرة (2015-2019) التي ربما أنها جمدت دون إعلان. الاستراتيجية الاقتصادية للرؤية في نظري تقدم العربة على الحصان. الحصان هو الإنسان المواطن المتعلم المنتج الآمن على حياته الصحية والسكنية والاجتماعية، هذا الإنسان برجاله ونسائه هو الذي يتقدم العربة (الاقتصاد الوطني) دافعاً بها إلى الأمام. الرؤية 2030هدفها الأساس تحقيق التوازنات المالية بين المصروفات والإيرادات الحكومية من خلال زيادة الرسوم والضرائب والاستثمارات الأجنبية وبيع جزء من أرامكو بدلاً من أن تكون الرؤية قائمة على إحداث تغيرات جوهرية وبنيوية في صلب الاقتصاد الإنتاجي والاستثماري الوطني والذي يبدأ برأس المال البشري أي الإنسان ثم تتبعه وترتبط به السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الهادفة إلى تحقيق نقلة نوعية في الانتاجية والتقنية والتعليم والاستثمار وصولاً إلى تنمية اقتصادية حقيقية مستدامة، ينتج عنها في النهاية التوازنات المالية بين المصروفات والإيرادات الحكومية. لقد تحدثت عن هذا الموضوع مرات عديدة لكني فقط أردت الإشارة إليه هنا في معرض الحديث عن الميزانية التي هي أهم وثيقة مالية حكومية اليوم.

 2.    الآثار الاقتصادية للقرارات المالية التي اتخذتها الدولة مؤخراً

اتخذت الحكومة مجموعة من القرارات المالية بدأت في العام المالي 2016م وسوف تظهر تباعاً في الأعوام المالية 2017 و2018م. وتهدف هذه القرارات مثل تخفيض البدلات لموظفي الدولة وخفض نسبة الدعم على الوقود والكهرباء والماء وزيادة الرسوم على التأشيرات وعلى العمالة الأجنبية وفرض ضرائب على الأراضي البيضاء إلى زيادة ايرادات الدولة تعويضاً لها عن انخفاض دخلها من البترول.  السؤال الذي يطرحه الاقتصادي (وليس المحاسب) هو ماهي الآثار المباشرة وغير المباشرة التي سوف تحدثها هذه السياسات (القرارات) على حركة الاقتصاد الوطني؟ رجل السياسة والمحاسب المالي معني بكم سوف يحقق هذا القرار من الإيرادات، وغالباً لا يكون معنياً بالآثار الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لهذه القرارات على الفعاليات الاقتصادية المختلفة.

الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى بحث وتحليل لا يتسع له المجال هنا، لكنه رغم ذلك فإنني أرى من الضرورة الإشارة إلى النقاط التالية:

ا. الواضح من القرارات المالية أنها تهدف إلى تعويض النقص في ايرادات الدولة من النفط من خلال زيادة ايرادات الدولة بالاقتطاع من دخل المواطنين والأجانب، وهذا في نظري لا يقع في نطاق تنويع مصادر الدخل وإنما في نقل الدخل من جيب العاملين من المواطنين والأجانب إلى جيب الدولة. وهذا في حد ذاته أمر مشروع اقتصادياً ولكن مشروعيته الاقتصادية تعتمد على نتائج تحليل اقتصادي يتعلق بالآثار النهائية لهذه القرارات على الحركة الاقتصادية بشكل عام من حيث آثارها الإيجابية أو السلبية على:

- حجم الطلب العام على السلع والخدمات

- حجم الاستثمار الخاص والاجنبي

- حجم الناتج المحلي الإجمالي في القطاع الخاص

- حجم العمالة أو البطالة

- معدل التضخم

- نمو المشاريع الصغيرة والمتوسطة

 وغيرها.

بالنسبة لرجل السياسة والموظف العام الأمر لا يتعدى أن يكون قراراً رسمياً يوقع ويعلن ثم يبدأ تحصيل الأموال بواسطة الجهات الحكومية المعنية وتبدأ الإيرادات الحكومية تزداد، أما بالنسبة للاقتصادي فإنه أولاً ينظر في أثر هذه القرارات على الفعاليات الاستهلاكية والادخارية والاستثمارية للأفراد والمؤسسات التجارية التي هي الوقود المحرك لعجلة الاقتصاد الحر. هذه الآثار لا تظهر في الأمد القصير جداً بل إنها تحتاج إلى شيء من الوقت لكي تتفاعل مع الوضع الجديد الذي أحدثته هذه السياسات المالية الجديدة ثم تظهر نتائجها على السطح. هل تمت دراسة التفاعلات الاقتصادية لهذه القرارات المالية ونتائجها المحتملة؟ لست أدرى ولكنني أشك في ذلك للسرعة التي اتخذت بها القرارات والبدء في تطبيقها.

3.    كل ايراد عام يجب أن يودع في حساب الحكومة

المبدأ الذي تقوم عليه حسابات المالية العامة للدولة هو إيداع جميع الإيرادات المتحصلة من أي جهة حكومية سواء كانت رسوم أو ضرائب أو بيع لسلع وخدمات أو غيرها في حساب الحكومة لدى مؤسسة النقد العربي السعودي (بنك الدولة). أهم بند في إيرادات الدولة هو المتحقق من بيع أرامكو وهي شركة حكومية للنفط والغاز الذي تملكه الدولة في الأسواق العالمية والمحلية. المعروف لدي أن شركة أرامكو تقتطع جزءاً من إيرادات النفط يُقدر بحوالي 15% من أجل الصرف على تكاليف التشغيل والصيانة والاستثمار للشركة. هذا المبلغ المقتطع من أجل وحدة قواعد وأنظمة المالية العامة للدولة. يجب إعادة شركة أرامكو إلى ميزانية الدولة وكذلك الحال بالنسبة لصندوق الاستثمارات العامة أو أي جهة تقوم باقتطاع جزء من إيراداتها قبل إدخال جميع الإيرادات إلى حساب الحكومة. يخشى البعض أن يؤثر إعادة شركة أرامكو إلى حظيرة ميزانية الدولة على قدرة الشركة على اتخاذ القرارات المالية المتعلقة بالتشغيل والصيانة والاستكشاف والاستثمار إلى غير ذلك من العمليات التجارية. قد يكون في هذا الادعاء شيء من الصحة لكن إذا أجزنا هذا المنطق فإن كثيرا من المصالح والمؤسسات الحكومية قد تكون كفاءتها في الإنفاق من حيث اتخاذ القرار أفضل من الوضع الحالي لوزارة المالية، لكن الأمور لا تؤتى هكذا وإنما علينا رفع كفاءة العمليات والقرار لدى وزارة المالية ليتلاءم مع معايير الإنتاجية والكفاءة وليس فتح الباب لكسر المؤسسات الحكومية لقواعد وقوانين ضبط المالية العامة للدولة والتهرب من القيود المتعلقة بضبط عملية جمع الإيرادات أو صرف النفقات.

4. كل نفقة تصرف يجب أن تدرج وتعلن في الميزانية

لا يبدو أن كل نفقة تصرف من الميزانية مسجلة ومعلنة في الميزانية. يبدو أن هناك بنوداً سرية لا تخضع لقواعد الإعلان والإفصاح للميزانية العامة للدولة، على سبيل المثال ميزانية الديوان الملكي والمخصصات المالية للعائلة المالكة وشيوخ القبائل وغيرهم. مما لا شك فيه أن هناك رقم بهذه المخصصات عند وزير المالية لكن هذا البند يبقى سرياً وتبقى إجراءات الصرف منه أيضاً ذات طبيعة سرية وخاصة.

قد لا يكون التفصيل في بعض بنود الميزانية مطلوبا لأسباب تتعلق بالأمن مثل المشتريات العسكرية لكن هذا لا يمنع أن يصرح بالمبلغ الإجمالي ضمن بنود الميزانية دون تفصيل أما أن يحجب بشكل كامل أو يدغم ضمن بنود أخرى فهذا أمر مخالف لأبسط قواعد الافصاح والشفافية وقد يكون ضرره أكبر من نفعه إن كان هناك نفع في إخفاء الحقائق. والضرر يتمثل في أنه في غياب المعلومة سيطلق العنان للتأويل وإثارة الإشاعات والأرقام الخاطئة.

5. إجراءات صرف الميزانية

تصرف النفقات المعتمدة في الميزانية كما يلي:

أ.   تصرف الرواتب والبدلات وما في حكمها، حسب بيانات الرواتب والبدلات التي تتقدم بها الوزارة أو الجهة الحكومية ذات الميزانية المستقلة بموجب ما رصد لها ضمن هذا الباب إلى وزارة المالية، بعد مراجعة وتدقيق من المراقب المالي أو الممثل المالي للجهة. ويبدو لي أن المشاكل في هذا الجانب محدودة. أما بالنسبة لجميع المشتريات الحكومية (غير العسكرية أو الأمنية أو تلك التي تصدر بها أوامر عليا مباشرة) فإنها تخضع لنظام المشتريات الحكومية، هذا النظام الذي عفى عليه الزمن من سنين طويلة والذي يحمل في طياته بذور الفساد والهدر المالي. يبدو أن هناك جهوداً لتطوير هذا النظام لكن يبدو أنه لايزال تحت الدراسة رغم أن الاصلاح مستحق منذ زمن.

ب. موافقة وزارة المالية وممثلها المالي قبل الصرف

 الممثل المالي (مندوب وزارة المالية) في الجهات الحكومية يمثل حجر الزاوية فيما يعرف (بموافقة وزارة المالية قبل الصرف). وحيث أن الممثل المالي لدى أي جهة حكومية هو الممثل لوزارة المالية الذي بيده إجازة الصرف أو إعاقته بناء على قواعد وأنظمة نظام المشتريات كما يفسره ويراه الممثل المالي فقد أصبحت لديه سلطة قوية عشعش عليها شيء من الفساد. كانت هناك محاولات في الماضي لإلغاء دور الممثل المالي قبل الصرف والتركيز على التدقيق بعد الصرف وتعطى المسؤولية في إجازة الصرف كاملة للوزير أو رئيس المصلحة ذات الميزانية المستقلة ونوابه ووكلاءه والمدراء كل بحسب موقعه في السلم الاداري ويظل هؤلاء جميعاً عرضة للمساءلة بناءً على نتائج عملية الفحص والمراجعة بعد الصرف من قبل وزارة المالية وديوان المراقبة العامة، لكن هذا التوجه قوبل بالمعارضة ورفض. وأعتقد اليوم أن هناك مراجعة للنظام أرجو أن تفضي إلى نظام يعتمد الشفافية والدقة وتعطي مسؤولية إجازة الصرف لرئيس الجهة التي اعتمدت لها ميزانية والذي يكون مسؤولاً عن أي أخطاء أو خلل في إجازة الصرف (صلاحية مقابل مسؤولية).

ج. القطاع الخاص وصرف الميزانية

صرف الميزانية في ما يتعلق بالمشاريع والمشتريات الحكومية هو الرابط الذي يجمع ما بين القطاع الخاص والحكومة (القطاع العام) ممثلة في الوزارات والمصالح الحكومية، هذا الربط أو الالتحام ما بين الجزئين المهمين في الاقتصاد الوطني، الحكومة والقطاع الخاص له تداعيات وعلاقة هامة فيما يتعلق بنشوء وترعرع الفساد الإداري إن غاب الضمير وغابت معه وسائل الحساب والعقاب. وكلما كانت هذه العلاقة ملوثة بالفساد كلما تأثرت سلباً الفائدة الاقتصادية من عمليات الإنفاق الحكومي التي تعود على القطاع العام (الحكومة) والقطاع الخاص. من البادئ بالفساد جهاز الحكومة أم القطاع الخاص؟ هذه قصة الدجاجة والبيضة أيهما أول. المؤكد أنه في غياب الشفافية والافصاح والمساءلة والعقاب والقدوة الحسنة من قبل موظف الدولة الذي يملك صلاحية إجازة العقود والمشتريات وإجازة الصرف فإنه سيكون للفساد مساحة واسعة سيحتلها كل من رجل الحكومة ورجل القطاع الخاص بل سيتسابقون عليها.

6. اعداد الميزانية 

تتولى وزارة المالية مهمة الإشراف على إعداد الميزانية بالتنسيق مع الأجهزة الحكومية المختلفة انطلاقاً من النقاط المرجعية للميزانية الجديدة التي تعدها الوزارة ويقرها مجلس الوزراء. إنشاء المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والتنمية يبدو أنه أخذ شيئاً من صلاحيات الوزارة فيما يتعلق بإعداد الميزانية أو لربما أيضا فيما يتعلق بعملية الصرف على المشاريع وخصوصا الكبرى.

إعداد الميزانية العامة للدولة يحتاج إلى تنظيم يربط جميع الإدارات المعنية بالميزانية في الأجهزة الحكومية مع وزارة المالية ووزارة الاقتصاد والتخطيط بمنظومة عمل تعتمد المنهج العلمي في بناء ميزانية للدولة تقوم على التقدير العلمي السليم للإيرادات وعلى التوزيع السليم للمصروفات على ضوء الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المقرة من أجل تحقيق تنمية مستدامة. يبدو لي أن إجراءات إعداد الميزانية في إطارها العام لاتزال كما كانت عليه منذ زمن، رغم أن هذا الزمن طويل. في هذا الإطار كان لوزارة المالية اليد العليا والقول الفصل في تحديد ما يخصص لكل بند أو فرع من فروع الميزانية ضمن مشوار طويل من الأخذ والرد بين فريق المصلحة الحكومية صاحبة الميزانية وبين فريق وزارة المالية. مما لا شك فيه إن كان هذا لايزال هو واقع الحال أن يوضع نظام جديد لإعداد الميزانية على أسس علمية ومرجعية لا تقوم على الجدل وعلى التوجيهات العليا فقط بل على التحليل المنطقي والإحصائي المرتبط بشكل مباشر بالأهداف الاقتصادية المنبثقة من الاستراتيجية الشاملة للتنمية.

 7. الإطار الزمني للميزانية 

لم يعد العام المالي للميزانية المكون من 12 شهراً كافياً كإطار زمني للمشاريع والبرامج التي أصبحت مددها تتجاوز العام. في إطار العام الواحد تقفل حسابات المشاريع والأجهزة الحكومية في نهاية العام ثم يعاد فتحها في بداية العام الجديد هذه إجراءات عفى عليها الزمن، وأصبحت مدة الميزانية من 3 – 5 سنوات مع مراجعة دورية و سنوية لتطور حركة الميزانية سواء من حيث الإيرادات أو النفقات. أعتقد وأتمنى أن تكون هناك جهود إصلاحية في هذا الاتجاه.

8 . خطورة تراكم الدين العام وخصوصا الخارجي 

على الرغم أن الدين العام لايزال ضمن النسب المقبولة عندما يشار إليه كنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي المكون من الدين العام كبسط، والناتج المحلي الإجمالي كمقام ( الدين العام /الناتج المحلي الاجمالي× 100) أرى عدم مناسبتها لاقتصادات دول نامية مثل السعودية يعتمد اقتصادها وإيراداتها على سلعة واحدة ناضبة وذات سوق عالمي وسعر عالمي متقلب كالنفط. الإشكالية هي في المقام أي الناتج المحلي الإجمالي المكون من جزئين الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي والناتج المحلي الإجمالي النفطي وهذا الأخير هو انعكاس للإيرادات النفطية. الايرادات النفطية لا سيطرة للحكومة عليها فقد تنخفض فجاءة كما حدث في عام 2015م عندما انخفضت بنسبة 50% وهذا سيؤدي إلى انخفاض قيمة المقام (الناتج المحلي الإجمالي) وبالتالي زيادة نسبة الدين العام. وإذا أخذنا في الاعتبار مضاعفات انخفاض إيرادات النفط على الإنفاق الحكومي ومن ثم على الناتج الإجمالي المحلي للقطاع الخاص فإن الناتج المحلي الإجمالي (المقام) سينخفض وسترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل أكبر. لذا فإنه يجب علينا عدم الاعتماد على المعايير المتعلقة باقتصاديات دول كبرى ذات نمو مستدام ومستقر لا يتأثر بشكل كبير بتغير في سلعة واحدة كالنفط. الدين الحكومي مالم يكن من أجل تمويل استثمارات إنتاجية يجب الحذر والإقلال منه حتى ولو كانت ظروف السوق المالية الدولية مواتية للاقتراض.

9. تنويع مصادر الدخل

تنويع مصادر الدخل هو من الأهداف الرئيسية التي عجزت الخطط الاقتصادية الخمسية السابقة في تحقيقه وجاءت الرؤية 2030 لتحققه .لكنه يبدو أن هناك خلط بين زيادة إيرادات الدولة من الرسوم والضرائب وبين تنويع مصادر الدخل الحكومي من أجل الاقلال من الاعتماد شبه الكامل على ايرادات النفط .الخلط في نظري يبدو أنه بسبب تغلب النظرة المالية التي يبدو أنها كانت سائدة بين مهندسي الرؤية 2030 وبين النظرة الاقتصادية التي تتعدى جباية الأموال إلى تحليل وتعقب الآثار الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للرسوم أو ضرائب على الفعاليات الاقتصادية. المحصلة الإجمالية لكل هذه التفاعلات المباشرة وغير المباشرة هي التي يجب التأسيس عليها فيما يتعلق بجدوى الضريبة أو الرسوم أو زيادة الإنفاق الحكومي أو خفضه. لذا فإنني أرى أن الرسوم والضرائب التي فرضت والتي سيقع أثرها الكبير على متوسطي ومحدودي الدخل (على الرغم من حساب المواطن الذي أشك في قدرته على امتصاص الأثر السلبي من انخفاض دخل الطبقات الوسطى والمحدودة والفقيرة) ليست تنويعا ًللدخل وإنما نقل للدخل من جيوب الطبقة العاملة من متوسطي ومحدودي الدخل إلى جيب الحكومة.

10. الحد من الانفاق لا يعطي الحق للحكومة الاخلال بالعقود مع القطاع الخاص

تبنت الدولة في العام 2015 و 2016م سياسة الحد من الإنفاق، وهذه سياسة مالية للتعامل مع الظروف التي تمر بها ميزانية الدولة من جراء الانخفاض الحاد في إيرادات النفط .ولكن هذه السياسة المالية لتكون فعالة وللحد من آثارها السلبية على القطاع الخاص بشكل خاص والاقتصاد بشكل عام يجب أن تراعي أمرين جوهريين الأول أن يتم الحد من الإنفاق على المشاريع غير المرتبطة بشكل مباشر بحياة المواطنين من الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود و الفقراء مثل السكن والصحة والتعليم و التدريب . ثانياً أن تحترم الدولة العقود الصحيحة الموقعة مع المقاولين، فإن قدم المقاول المطلوب منه ضمن شروط العقد ومتطلباته وفي الزمن المحدد فعلى الدولة دفع المبالغ المستحقة لهذا المقاول التزاما بالعقد الموقع واحتراما لنصوصه. إن كان للدولة شبهة تتعلق بقانونية العقد أو شبهة تتعلق بفساد مارسه المقاول في الحصول على العقد، فالقضاء هو الفيصل في هذا الأمر وليس قرار وزير المالية في وقف صرف دفعات مستحقة. الدولة يجب أن تكون مثالاً للقطاع الخاص في الالتزام بالعقود واحترامها.

11. العدالة الاجتماعية والضرائب والرسوم

العدالة الاجتماعية أصبحت اليوم من أهم الأهداف لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة مستدامة تحقق الرفاه للمواطنين وتؤمن الاستقرار السياسي الذي هو القاعدة الأساسية للإصلاح والتنمية الاقتصادية. استقرار الأمن الاجتماعي والسياسي ضروري لقيام نظام اقتصادي حر يؤمن لرجال الأعمال والأثرياء مجالاً اجتماعياً وسياسيا مستقراً ملائماً للاستثمار وزيادة الثروة. العدالة الاجتماعية لا تعني افقار الأغنياء وأخذ أموالهم بالباطل وإنما تعني أن على من يقومون بتنمية ثرواتهم وزيادة دخولهم دفع جزء يسير من هذا الزيادة لتمويل ميزانية الدولة من أجل الحفاظ على هذا الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي. من متطلبات الاستقرار الاجتماعي الحد من الفقر ودعم أصحاب الدخول المحدودة بتهيئة الفرص لهم في التعليم والتدريب والخدمات الصحية والسكن. هنا تتحقق العدالة الاجتماعية بالأخذ من الأغنياء دون إضرار بقدراتهم الانتاجية والاستثمارية وإعطاء الفقراء وأصحاب الدخل المنخفض منعاً للفاقة والجريمة وفقدان الأمل في حياة كريمة وبذلك يستتب الأمن الاجتماعي والأمن السياسي والأمن الاقتصادي.

12. الميزانية والافصاح والشفافية

مع انتشار آداب الديمقراطية ومفاهيمها ومتطلباتها في العالم المتقدم ووصولها إلى شواطئنا في العالم الثالث، أصبحنا نردد كلمات مثل الافصاح والشفافية. الكلمتان تحملان معنى واحد لكن من جوانب مختلفة. الافصاح يعني الوضوح أي عكس الكتمان. يقال أفصح الرجل عن رأيه أي أوضحه دون خوف أو وجل. والشفافية هي قابلية الجسم لإظهار ما ورائه، يقال تحدث فلان بشفافية أي بوضوح تام.

دخلت هذه المصطلحات مجال الميزانية العامة للدول، ونشأت جمعية عالمية (Open Budget Index)  لقياس حجم الشفافية والافصاح في الميزانيات التي تنشرها الدول استناداً إلى مسح شامل يتعلق بالتقارير وعددها ونوعيتها التي تصدرها الدول للإفصاح لشعوبها عن البيانات التي بنيت عليها الميزانية، افصاحاً شفافاً يظهر كل الأمور التي يجب أن يعرفها المواطن. وتقوم هذه المؤسسة الدولية بترتيب الدول حسب النقاط التي تحصل عليها من نتائج المسح للوثائق التي أصدرتها الدولة عن ميزانيتها.

تقول وزارة المالية في (ص9) من ما اسمته بالميزانية المختصرة "إن توفير النسخة المختصرة يعتبر أحد متطلبات معايير الشفافية العالمية ( (Open Budget Index  الذي تسعى الوزارة الالتزام به مستقبلا".

عند العودة إلى موقع مؤسسة الافصاح والشفافية العالمية نجد أن ترتيب المملكة العربية السعودية بين دول العالم أجمع في الافصاح والشفافية هو الأخير، حسب التقييم في شهر مايو 2016 م.

الإفصاح والشفافية في الميزانية هو تعبير عن مدى الثقة في الأرقام والبيانات التي تقوم عليها الميزانية لأن الإفصاح والشفافية سيعرض أرقام الميزانية إلى القراء والمحللين من المواطنين والمهتمين والمختصين، وكلما كانت الحكومة واثقة في قدرتها على الإجابة على تساؤلات المواطنين كلما رفعت مستوى الإفصاح والشفافية خلاصة القول إن مستوى الإفصاح والشفافية في ميزانية المملكة 2017م ضعيف جداً. ولابد للحكومة أن تحترم عقل المواطن وحقه في المعرفة، إن تم ذلك ستفصح الحكومة عن ميزانيتها بكل شفافية ووضوح، وهذا ما أتمنى أن تكون عليه الميزانيات القادمة.
                         الرياض   في 10 يناير 2017